الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)
أي: ثعلبة، ورباحاً، وكذا قول الآخر: أي: ورزاماً، وقوله: {أو إياكم} معطوف على اسم إن، وخبرها هو المذكور، وحذف خبر الثاني للدلالة عليه، أي: إنا لعلى هدى، أو في ضلال مبين، وإنكم لعلى هدى، أو في ضلال مبين، ويجوز العكس: وهو كون المذكور خبر الثاني، وخبر الأوّل محذوفاً، كما تقدّم في قوله: {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62]، ثم أردف سبحانه هذا الكلام المنصف بكلام أبلغ منه في الإنصاف، وأبعد من الجدل، والمشاغبة، فقال: {قُل لاَّ تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} أي: إنما أدعوكم إلى ما فيه خير لكم، ونفع، ولا ينالني من كفركم، وترككم لإجابتي ضرر، وهذا كقوله سبحانه: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ} [الكافرون: 6]، وفي إسناد الجرم إلى المسلمين، ونسبة مطلق العمل إلى المخاطبين، مع كون أعمال المسلمين من البرّ الخالص، والطاعة المحضة، وأعمال الكفار من المعصية البينة، والإثم الواضح من الإنصاف ما لا يقادر قدره. والمقصود: المهادنة، والمتاركة، وقد نسخت هذه الآية، وأمثالها بآية السيف.ثم أمره سبحانه بأن يهدّدهم بعذاب الآخرة، لكن على وجه لا تصريح فيه، فقال: {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا} أي: يوم القيامة {ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بالحق} أي: يحكم، ويقضي بيننا الحقّ، فيثيب المطيع، ويعاقب العاصي {وَهُوَ الفتاح} أي: الحاكم بالحقّ القاضي بالصواب {العليم} بما يتعلق بحكمه وقضائه من المصالح. وهذه أيضاً منسوخة بآية السيف. ثم أمره سبحانه: أن يورد عليهم حجة أخرى يظهر بها ما هم عليه من الخطأ، فقال: {قُلْ أَرُونِىَ الذين أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاء} أي: أروني الذين ألحقتموهم بالله شركاء له، وهذه الرؤية هي: القلبية، فيكون {شركاء} هو: المفعول الثالث، لأن الفعل تعدّى بالهمزة إلى ثلاثة.الأوّل: الياء في {أروني}، والثاني: الموصول، والثالث: {شركاء}، وعائد الموصول محذوف أي: ألحقتموهم، ويجوز: أن تكون هي البصرية، وتعدّى الفعل بالهمزة إلى اثنين: الأوّل الياء، والثاني الموصول، ويكون {شركاء} منتصباً على الحال. ثم ردّ عليهم ما يدعونه من الشركاء، وأبطل ذلك، فقال: {كَلاَّ بَلْ هُوَ الله العزيز الحكيم} أي: ارتدعوا عن دعوى المشاركة، بل المنفرد بالإلهية، هو: الله العزيز بالقهر والغلبة، الحكيم بالحكمة الباهرة.وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {فُزّعَ عَن قُلُوبِهِمْ} قال: جلّى.وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه عنه قال: لما أوحى الجبار إلى محمد صلى الله عليه وسلم دعا الرسول من الملائكة: ليبعثه بالوحي، فسمعت الملائكة صوت الجبار يتكلم بالوحي، فلما كشف عن قلوبهم سألوا عما قال الله، فقالوا: الحقّ، وعلموا: أن الله لا يقول إلاّ حقاً. قال ابن عباس: وصوت الوحي كصوت الحديد على الصفا، فلما سمعوا خرّوا سجداً، فلما رفعوا رءوسهم {قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ الحق وَهُوَ العلى الكبير}.وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال: ينزل الأمر إلى السماء الدنيا له وقعة كوقعة السلسلة على الصخرة، فيفزع له جميع أهل السموات، فيقولون: ماذا قال ربكم؟ ثم يرجعون إلى أنفسهم، فيقولون: الحق وهو العليّ الكبير.وأخرج البخاري، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وغيرهم من حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله: كأنه سلسلة على صفوان ينفذهم ذلك، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: للذي قال: {الحقّ وهو العليّ الكبير}» الحديث، وفي معناه أحاديث.وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ في ضلال مُّبِينٍ} قال: نحن على هدى، وإنكم لفي ضلال مبين.وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس قال: {الفتاح} القاضي.
وقول الآخر: وقول الآخر: وممن رجح كونها حالاً من المجرور بعدها ابن عطية، وقال: قدمت للاهتمام، والتقوّي. وقيل: المعنى: إلاّ ذا كافّة، أي: ذا منع، فحذف المضاف. قيل: واللام: في {لِلنَّاسِ} بمعنى إلى، أي: وما أرسلناك إلى الناس إلاّ جامعاً لهم بالإنذار، والإبلاغ، أو مانعاً لهم من الكفر، والمعاصي، وانتصاب {بَشِيراً وَنَذِيراً} على الحال، أي مبشراً لهم بالجنة، ومنذراً لهم من النار {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} ما عند الله، وما لهم من النفع في إرسال الرسل.{وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صادقين} أي: متى يكون هذا الوعد الذي تعدونا به، وهو: قيام الساعة أخبرونا به إن كنتم صادقين. قالوا: هذا على طريقة الاستهزاء برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن معه من المؤمنين، فأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيب عنهم، فقال: {قُل لَّكُم مّيعَادُ يَوْمٍ} أي: ميقات يوم، وهو: يوم البعث. وقيل: وقت حضور الموت. وقيل: أراد يوم بدر؛ لأنه كان يوم عذابهم في الدنيا، وعلى كل تقدير، فهذه الإضافة للبيان، ويجوز في ميعاد: أن يكون مصدراً مراداً به الوعد، وأن يكون اسم زمان. قال أبو عبيدة: الوعد، والوعيد، والميعاد بمعنى. وقرأ ابن أبي عبلة بتنوين: {ميعاد} ورفعه، ونصب: {يوم} على أن يكون ميعاد مبتدأ، ويوماً ظرف، والخبر لكم. وقرأ عيسى بن عمر برفع: {ميعاد} منوّناً، ونصب: {يوم} مضافاً إلى الجملة بعده. وأجاز النحويون: {ميعاد يوم} برفعهما منوّنين على أن ميعاد مبتدأ، ويوم بدل منه، وجملة: {لاَّ تَسْتَئَخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلاَ تَسْتَقْدِمُونَ} صفة لميعاد، أي: هذا الميعاد المضروب لكم لا تتأخرون عنه، ولا تتقدّمون عليه، بل يكون لا محالة في الوقت الذي قد قدّر الله وقوعه فيه.ثم ذكر سبحانه طرفاً من قبائح الكفار، ونوعاً من أنواع كفرهم، فقال: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَن نُّؤْمِنَ بهذا القرءان وَلاَ بالذى بَيْنَ يَدَيْهِ} وهي: الكتب القديمة، كالتوراة، والإنجيل، والرسل المتقدّمون. وقيل: المراد بالذي بين يديه الدار الآخرة. ثم أخبر سبحانه عن حالهم في الآخرة، فقال: {وَلَوْ ترى إِذِ الظالمون مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبّهِمْ} الخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم، أو لكل من يصلح له، ومعنى {موقوفون عند ربهم}: محبوسون في موقف الحساب {يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ القول} أي: يتراجعون الكلام فيما بينهم باللوم والعتاب، بعد أن كانوا في الدنيا متعارضين متناصرين متحابين. ثم بيّن سبحانه تلك المراجعة، فقال: {يَقُولُ الذين استضعفوا}، وهم: الأتباع {لِلَّذِينَ استكبروا}، وهم: الرؤساء المتبوعون {لَوْلاَ أَنتُمْ} صددتمونا عن الإيمان بالله، والاتباع لرسوله {لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} بالله مصدّقين لرسوله، وكتابه.{قَالَ الذين استكبروا لِلَّذِينَ استضعفوا} مجيبين عليهم مستنكرين لما قالوه: {أَنَحْنُ صددناكم عَنِ الهدى} أي: منعناكم عن الإيمان {بَعْدَ إِذْ جَاءكُمْ} الهدى، قالوا هذا منكرين لما ادّعوه عليهم من الصدّ لهم، وجاحدين لما نسبوه إليهم من ذلك، ثم بينوا لهم: أنهم الصادّون لأنفسهم، الممتنعون من الهدى بعد إذ جاءهم، فقالوا: {بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ} أي: مصرّين على الكفر، كثيري الإجرام، عظيمي الآثام.{وَقَالَ الذين استضعفوا لِلَّذِينَ استكبروا} ردّاً لما أجابوا به عليهم، ودفعاً لما نسبوه إليهم من صدّهم لأنفسهم {بَلْ مَكْرُ اليل والنهار} أصل المكر في كلام العرب: الخديعة، والحيلة، يقال: مكر به إذا خدعه، واحتال عليه. والمعنى: بل مكركم بنا الليل والنهار، فحذف المضاف إليه، وأقيم الظرف مقامه اتساعاً.وقال الأخفش: هو على تقدير هذا مكر الليل، والنهار. قال النحاس: المعنى والله أعلم، بل مكركم في الليل، والنهار، ودعاؤكم لنا إلى الكفر هو الذي حملنا على هذا.وقال سفيان الثوري: بل عملكم في الليل والنهار، ويجوز: أن يجعل الليل، والنهار ماكرين على الإسناد المجازي كما تقرّر في علم المعاني. قال المبرّد كما تقول العرب: نهاره صائم، وليله قائم، وأنشد قول جرير: وأنشد سيبويه: وقرأ قتادة، ويحيى بن يعمر برفع {مكر} منوّناً، ونصب: {الليل والنهار}، والتقدير: بل مكر كائن في الليل والنهار. وقرأ سعيد بن جبير، وأبو رزين بفتح الكاف، وتشديد الراء مضافاً بمعنى: الكرور، من كرّ يكرّ إذا جاء، وذهب، وارتفاع {مكر} على هذه القراءات على أنه مبتدأ، وخبره محذوف، أي: مكر الليل والنهار صدّنا، أو على أنه فاعل لفعل محذوف، أي: صدّنا مكر الليل والنهار، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف كما تقدّم عن الأخفش.وقرأ طلحة بن راشد كما قرأ سعيد بن جبير، ولكنه نصب {مكر} على المصدرية، أي: بل تكرّرت الإغواء مكرًّا دائماً لا تفترون عنه، وانتصاب {إِذْ تَأْمُرُونَنَا} على أنه ظرف للمكر، أي: بل مكركم بنا وقت أمركم لنا {أَن نَّكْفُرَ بالله وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً} أي: أشباهاً، وأمثالاً. قال المبرد: يقال ندّ فلان فلان، أي: مثله، وأنشد: والضمير في قوله: {وَأَسَرُّواْ الندامة لَمَّا رَأَوُاْ العذاب} راجع إلى الفريقين أي: أضمر الفريقان الندامة على ما فعلوا من الكفر، وأخفوها عن غيرهم، أو أخفاها كل منهم عن الآخر مخافة الشماتة. وقيل: المراد بأسرّوا هنا أظهروا؛ لأنه من الأضداد يكون، تارة بمعنى: الإخفاء، وتارة بمعنى: الإظهار، ومنه قول امرئ القيس: وقيل: معنى {أسروا الندامة}: تبينت الندامة في أسرّة وجوههم {وَجَعَلْنَا الأغلال في أَعْنَاقِ الذين كَفَرُواْ} الأغلال جمل غلّ، يقال: في رقبته غلّ من حديد، أي: جعلت الأغلال من الحديد في أعناق هؤلاء في النار، والمراد بالذين كفروا: هم المذكورون سابقاً، والإظهار لمزيد الذمّ، أو للكفار على العموم، فيدخل هؤلاء فيهم دخولاً أوّلياً: {هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي: إلاّ جزاء ما كانوا يعملونه من الشرك بالله، أو إلاّ بما كانوا يعملون على حذف الخافض.وقد أخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر عن مجاهد في قوله: {وَمَا أرسلناك إِلاَّ كَافَّةً لّلنَّاسِ} قال: إلى الناس جميعاً.وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة قال: أرسل الله محمداً إلى العرب، والعجم، فأكرمهم على الله أطوعهم له.وأخرج هؤلاء عنه في قوله: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَن نُّؤْمِنَ بهذا القرءان} قال: هذا قول مشركي العرب كفروا بالقرآن، وبالذي بين يديه من الكتب، والأنبياء.
|